–
أخاديدٌ قديمة.. تجتثني
أغوصُ إلى الخلف، أسقط
تلفظني.. فقاعة الصمت!
ينفتق.. فتقٌ في قلبي
أفيق.. وكلي مُتناثر!
بعيداً جداً عن نفسي
أين أنا؟
جزءٌ من الذاكرة؛ مفقود.
••
- “آه، ولم أخبرك عن جدول الامتحانات، هو ليس جيداً، بل ليس عقلانياً على الإطلاق، أنت لا تعلم قدر الاختلاف بين …. “
هل بدأت الأشجار تتحدث؟ أو تصرخ الرياح أيضاً؟ وكأن الضجيج يتحول إلى وحشٍ هادئ يُصدر هدير خافت، يؤذن في القلبِ أن الموت قد طاله. قد بات يتربص به، يُحدّق فيه بوقاحة.
- “أ تعلم؟ يبدو أن أبي يشتاقُ إليك كثيراً، إنه حتى يُناديني باسمك أحياناً، أتتخيل أن يكون نادماً؟”
هل هناك أمواتٌ على قيدِ الحياة؟ يا تُرى في هذا اليوم.. كم ماتت نفسٌ ما زالت تتنفس؟ ماتت.. وهي على قيدِ الحياة!
ما هو اليوم؟ أعتقد أنه السبت، الجو بارد، لذلك القهوة قد بردت سريعاً، رفعتُ نظري إليه، فوجدتُ عينيه تُحدقان بي، وهو يهتف بضجر:
- “أنت لست معي، أليس كذلك؟”
- “قهوتك”
- “ما بها؟” تساءل وهو ينظر إليها.
- “بردت”
بقيت عينيه مُحدقةً فيَّ عدة دقائق كالذي فقد حيلته من شخصٍ ما، ثم رمى عليّ الورقة التي كان يلهو بها وهو يتذمر، وولّى عني بعد أن قال: “أيها السخيف”.
سخيف؟ إنها شتيمةً مألوفة! لكنني لا أتذكر من أين كنت أتلقاها، وممن. لكنها كما أعتقد.. أخفُ وطأةً من كل السباب الذي كان يُوجه لي، وكما أشعر.
وقفت، تبعتُ شقيقي الأصغر، لقد جاء لأجلي مسافةً طويلة، يتوجب علي العناء قليلاً، على الأقل.. الحفاظ على هذا الجزء من الذاكرة، لئلا تذهب مشقته هباءً، لئلا أموت هدراً.
••
ورقٌ مُتناثر، البعضُ هُنا.. والبعض الآخر هُناك، إن أخي عمر فوضويٌّ بعكسي، هل كان يُحب الكتابة؟ أو كانت رسائل! لا أتذكر أنه يميل لذلك، الكتابة تعني العاطفة، تعني البُكاء، لكنني لم أراه قط يتأمل بعُمق، ما الرابط؟ الذين يكتبون عادةً ما يحبذون التأمل .. وكثيراً، لذلك هم مملون حينما تجلس معهم، البعض منهم أظن، مثلي.
جلستُ على الأرض أُخرب على الفوضى جنونها، وأُسكت هذا الكائن المُستفز في داخلي، وأرقب كل انحناءٍ في الورق، كما الذي يُريد أن يبعث في الورق.. الحياة.
الدلائل من حولي تُؤكد أن هناك من شاركني غرفتي عن قريب، لكن قلبي لا يبدو أنه تغير، الأغبرة المتراكمة عليه تجعله نسياً منسياً، لكن ما وضع هذا الورق؟
على أخر ورقةٍ سرقني فضولي ودفعني لكَويّ انعطافاتِها، ثم لم أجد سوى عدة نقاط! توجهتُ للسلة فتشت غيرها من الورق، رُبما كان الفراغ يُحركني! وجدت إحداها تمتلئ ببعض المخربشات الناقمة، وأخرى اسمي منحوتاً بغضب وعليه حبالٌ تشنقه! مما دفعني إلى الضحك، حتى سقطت، وسقطت معيّ السلة واكتسحت الفوضى غُرفتي من جديد.
ما بالُ الكائن المُستفز في داخلي.. قد نام هادئاً الآن؟
- ••
- “أخبرني رأيك بصدق، لقد كتبتها بالأمس”
- “هي جيدة.. لكنها تفتقر للمرونة، والبلاغة”
أنزل ورقته، وتمعرت ملامحه بالاستياء، وزميلاً بجانبه هرع إليّ وهو يسخر من الأول، ثم قال بعد أن فرغ من ضحكه العالي: “أ تعلم إبراهيم؟ أشعر وكأن هناك الكثير من الأسرارِ في داخلك، يُحدثني فضولي أنني سأجد شيئاً منها ممتعاً!”
ابتسمتُ بصمت، فقال آخرٌ يبعد عنا مترين: “نعم، إنني أعرفه جيداً، قلبه يقطن في بحيرة مليئةً بالأسماك المفترسة، والتي تأكل قلبه! تقيئها يا إبراهيم، وارتح منها”
ضحك الجميع، ومن ثم جاء أحدٌ بشيءٍ أكثر تسليةٍ من “أسراري” .. فهرعوا جميعاً نحوه، تاركيني في الخلف.
ماذا قالوا؟
يعرفونني جيداً!
يا للفكاهة.
رُبما أنا.. لم أمت بعد، فإن مثل هذه التصرفات التافهة ما زالت توقظ كائني المُستفز من داخلي.
••
فتحتُ النافذة على مصراعيها، فتهاتف غناءُ العصافير إلى نافذة قلبي ليفتحها. لديّ فراغاتٍ شتى بداخلي، سدّها أُكسجين الصباح الداخل إلى رئتيّ. برودة بداية الصباح أرعشتني، ارتديتُ معطفاً متيناً، فدفئتُ جسدي.. لكن من يُدفئ قلبي؟
حملتُ كتبي إلى مكانٍ قصي، إلى حيثُ لا أحد، كما أعيشُ في داخلي تماماً، جلستُ في المكانِ الساحر، الذي يُرتبني، يُصنف قائمة أمنياتي، ويودع في قلبي بعضاً من الحُب.
قائمة أمنياتي؟ وهل لدي أُمنيات! إنها أمنيةً واحدة فحسب، أن أعيش بهدوء، كان قراري الوحيد الذي اتخذته منذ أربع سنوات، ألا يُضايقني أحد. أيُ حب؟ لا أتذكر أن شيئاً من ذلك ضمن حياتي قد وُلد، لا أتذكر حافزاً لذلك استمر معيّ أو بدأ، الحب؟ هو ذاته من جعلني هشاً لا أملك يدين تدفع التيار عني.
ورُبما كان هو ذات المشاعر، تلك التي تجعلني أشعر.. وكأنني نسيتُ شيئاً!
أمسكتُ بأحدِ الكتب، فسقطت من بينِ دفتيه، ورقة.. منذ متى أحشر الورق بين صفحات الكتب؟
حملتها، لقد كانت تحملُ كتابةً ما، قرأت:
[ يقول جورج سانتايانا: أولئك الذين لا يتذكرون ماضيهم مكتوب عليهم أن يعيدوه. ]
من كتبه؟ أنا؟ رُبما كان أخي الأصغر عمر بدافعٍ خفي!
وهل أملك شيئاً.. حتى يتوجب عليّ ألا أنساه؟
أمن الممكن أن يتمكن الماضي.. من العودة.. بكل ما فيه!!
أما الآن..
فالكائن المُستفز من داخلي.. بات مشوشاً.
••
تشويشٌ في رأسه، رغم الأجواء الباردة لكنه يشعر بالحر يضطمر في داخله!
حمل كتبه، وقف، سقط كتاب.. نزل ليحمله، فسقطت بقية الكتب.. تنفس بصعوبة، الأنوار بدأت تُشعره بالاستياء!
الكتب الطريحة على الأرض، العشب الذي غطى أقلامه، معطفه الثقيل، الهدوء الذي بات حبلاً يشدُّ ضجيج عقله، ليُغطي رؤيته!
أصواتٌ شتى.. تأتيه من كل مكان..
“أنت تُدهشني في مدى قمة فشلك!”
” لم أرى مثلك ابناً عاقاً”
“لا تُرني وجهك مُجدداً”
صرخ، هذه الأشياء تكادُ تقتلع قلبه، رُغم أنه لا يتذكر دونها شيء! هزّ رأسه يمنةً ويسرى بغضبِ الصياد الذي رفع سنارته فلم يجد سوى حذاءٍ قديم.. لا يتعرف عليه، أو رُبما.. كان ينتمي إليه.
هرع إلى شقته، الكائنة بقرب جامعته التي يدرس فيها في هذا البلد البعيد، الذي دفعه بعيداً عن كل شيء، عن كل الأشياء التي لا يتذكر عنها شيئاً! لقد أبعدت جسده، عقله، محلّه ومهجعه .. إلا قلبه، بقيّ هُناك.. حيث الفراغ الذي نسيَّ ما يكون؟
قبل أن يتجه إلى شقته، عطف على عيادةٍ صغيرة كان يطمئن إلى طبيبها الذي كشف عليه بدون تأخير. ثم سأله: “أين تشعر بالألم يا إبراهيم؟”
- “في كل أنحاء جسدي”
عاينه قليلاً، ثم فحص عضلاته، وأجرى عليه بعض التشخيصات، ثم قال: “إنك لا تشكو من علّةٍ يا إبراهيم”.
- “ولكنني أتألم!”
- “إنه قلبك”.
- “قلبي بخير”.
- “أتمنى ذلك”. قالها بابتسامة، قبل أن يعود إلى أوراقه وينشغل بها.
تمتم في نفسه.. “ألا يوجد كلامٌ يُضيفه؟ أبات طبيبي الممتاز.. ضعيف النظر، إنني أشعر جيداً بأن داخلي مُهشم، يُخيل إليَّ أنني بحاجة لعدة عملياتٍ جراحية!”
••
“ليس من شيء يثبت شيئاً ما في الذاكرة مثل الرغبة في نسيانه”
‐ ميشيل دي مونتين.
••
خرجتُ مُبكراً كعادتي كل صباح، لعلّ التبكير يزيدُ من كمية الذكريات التي سأجمعُها مُجدداً كي تملئ مساحات ذاكرتي القديمة.. الفارغة إلا من بعض الأسماء، أزرعُ ذكرى.. تليها ذكرى، وذكرى.. حتى أُصاب بالتُخمة، إذا ما شعرت وكأنني اُوشك على التقيؤ، نعم.. إنني أحلم، بطريقتي الخاصة في الهروب.
يسيران بجانبي فتاتان، فتصرخ إحداهُن على حينِ غرة: “أُنظري.. يا إلهي!”
تابعتُ محادثتهما بانتباهٍ وأنا أسير حذوهما.. تخيلت أن أصبعها قد قُطع! التفتُ عليهما فأجدُ أن صاحبتها قد انفعلت مثلها، وهي تُجيبها: “أظافرك تتكسر مُجدداً، ماذا ستفعلين؟”
كم هو العالم صغير.. بقدر الظفر، لا بل أصغر، ابتسمت، ملتفتاً عنهما.. مُرخياً سمعي، أرقب محادثاتٍ من حولي أكثر صغراً من هذه، أريدُ بذلك حساب مساحة العالم.. الحقيقية.
شابٌ في اُذنيه سماعتيه، يصرخ بجانبه صاحبه.. ليسمعه: “أما زال لديك مُتسع من الوقت للذهاب معي؟”
فيجيبه صاحبه، رافعاً صوته، من غير أن يخلع سماعتيه: “ماذا قلت؟”
يُكرر صاحبه سؤاله بصرخةٍ أعلى، فيجيبه صاحب السماعات، ويكملانِ أحاديثهما بالصراخ، من غير أن يُزيل الأول سماعاته، أو يُخفض صوتها.
أطلقتُ ضحكةً خفيفة، وأنا أتخيل حالي المشابه، إنني أملئُ أُذنيّ بصوتِ الأحلام، وشعوري يؤكد لي أن ما وراء الأحلام.. حقيقةً مُهمة قد نسيتها.
مُسنانِ أمامي يسيران، منهمكان بغُمرة أحاديثهما، العجوز تتكئ على كتفِ مُسنها، وهي تُشير برأسها مجيبةً: “حقاً نسيتُ ذلك بالكلية”. وتضحك، يُبادلها الضحك.. ثم يقول بغمزة: “أنتِ لم تنسين.. بل تناسيتِ!”
أما الآن فقد توقفتُ مكاني، شارداً بفكري، كأن حديثه توجه إليَّ مُباشرةً، وتسلل إلى ذاكرتي المُخبأة بين أطنانِ من الكائنات الجبانة، والخلايا الخائفة، القلقة، الهاربة والمتصاغرة، يا تُرى.. هل تناسيت حتى عوقبت بالنسيان؟
صوت الحافلة، أيقظ شرودي، فلحقتُ بالزحام، وحشرتُ جسدي بينهم.
النظر من نوافذ الحافلة، كافٍ لأن يكون نزهةً ترويحية، بل أعني مشاهدة الناس.. وتأمل تصرفاتهم من الجانب، أعتقد أنه كفيل بالترفيه عن النفس، وإعادة هيكلة تفكيرها وقراراتها الفاشلة.
فبعدما كنت أضع مسافةً بيني وبين أيُ متكلم، وقايةً من أي فيروسات وبائية كلامية، تصرفيه، أو مرضية من الممكن أن يُعديني بها إن اقتربت، وجدت أن المسافات القصيرة بيننا وبين الآخرين تحبس عنا أحياناً أشعة الشمس المؤذية، تُظلل أمانينا حتى لا تذوب فينا، وتحفظ قلوبنا من أن تُسرق.
على خلافِ هؤلاء السائرون الثنائيون والأصحاب، كان ضِعفهم.. بل أكثر من ذلك بكثير.. يسيرُ منهم الفرد وحيداً، يركب وحيداً، يعيش وحيداً، أما منظرهم حينما أقترب منهم لم يكن يبعث فيَّ أي تأثر كما يفعل ذلك المتصاحبون، أو العائلات كما يحدث كثيراً في بلدي، فهناك من النادر أن ترى شخصاً يسير وحيداً، من النادر أن تجد مثل هذا الهدوء! فقد كان الضجيج ينبعث من كلِ مكانٍ وجهة، أطفالاً، شباباً ومسنون. الجميع يبدون في وطني البعيد.. سعداء على خلاف ما تجد ظاهرهم من شجارٍ أو شقاء.
وهُنا، تجد نصف الشعب يسير، النصفُ الثاني يركب الحافلات، ومن النادر أن تجد من يركب بالراكبات الخاصة، بخلافِ الناس في وطني.. القليل.. بل أقلُ القليل تجدهم يسيرون على أقدامهم، ممارسة المشي قلّت، بسبب حرارة الأجواء فيه، بُعد المسافات، وعدم توفر الحافلات.
- “تباً لك، غادر وحسب، لا تُعلم الصغير تصرفاتك السيئة”
- “هل من المعقول أن يُعلمه والده شيئاً سيئاً؟ يبدو أنكِ بدأتِ تتوهمين”
- “لأنك في الحقيقة.. لا تدرك ما تفعل! منذ عرفتك كنت فاشلاً ولا زلت”
غيبني هذا الحوار الذي بجواري عن العالم الذي كنتُ أهيم فيه، جعل طاقتي في سُباتٍ قديم، وخض هدوئي.. يبدو أن هناك رابطاً قوياً بيني وبين الفشل.. حتى تُحركني هذه الكلمة كيفما سمعتها، وأينما قيلت، رُبما لتوقفي عن الدراسة سنتين كاملتين علاقةٌ بذلك! الكائن المُستفز بداخلي بدأ يتوجسُ خيفةً من مجرد الذِكرى، لقد كنت أعود للوراء.. أتزعزع، حتى أصطدم بي رجلاً من الخلف، وهو يتضجر مني، يُطالبني بالنزول.. الحافلة قد توقفت.
يا تُرى لمَ ننصت إلى أحاديث الآخرين.. في حين أنها تؤذينا، توجع طمأنينتنا، كنت بخير، حتى أصبحت أتنقل في أعين الناس، أنظر عن كثب إلى حيث أعماقهم، وأرى أصواتهم في قلبي. لم أتخيل أن للأصوات ألوان.. حتى بتُ أُزجي إليها رؤيتي، مُغلقاً العينين.
كيف يمكن للذاكرة النائمة أن تفتح عينيها إذا ما تدفق إليها صوتاً لا تعرفه، لكنها تعي جيداً ما يقول؟ تعي جيداً رطوبة المشاعر التي تخلف هذا الحديث.
- أتحاول عكس تأثير فشلك على هؤلاء الأطفال الآن؟ أو أنك تحاول جعل منهم نسخاً منك؟”
يا إلهي، عدتُ لأرى صوته مجدداً بين الأصوات المختلطة في قلبي هذه اللحظة، أغلقت أُذنيّ؛ علّه يخفت، حتى يختفي ولا أسمعه، أغلقت عيني أيضاً.. لئلا أراه، لأكف عن رؤية الأصوات!
الصوت بحدِّ ذاتهِ.. هو من ألمني لا الكلمات، الصوت الذي رعاني منذ كنت صغيراً، ولأنه ذات الصوت.. الذي أذن في أُذني، حين جئته وليداً صغيراً، وأخذني بين يديه.
عادةً حينما نتألم؛ ذلك بسبب عودة جُزءًا من الذاكرة، مع مشاعر مُرفقة.. هشة، وأدناها قبل أن تموت، فأحيتها الذكريات، وأعادتها حيثُ كانت، في تمام الوقت، والزمان.. شدتنا هناك. الذكريات الشيء الوحيد الذي لا نستطيع التخلي عنها مهما فعلنا، المكان الفارغ منها لا يُمكن أن يُملأ بغيرها.
••
بريدٌ وصلني، كان ظرفاً كبيراً.. ارتشفتُ كوب القهوة الساخن.. لذعنني فتركته وفتحتُ الظرف.. ما الذي يا تُرى يرسله لي والدي بعد كل هذه الأعوام؟ لم يكن يرسل لي شيئاً إلا مصروفاً بسيطاً بين الفينةِ والأُخرى!
أخرجتُ ما فيه بعجلة، وأنا أقهقه بسخرية.. ما الشيء الذي تعنى لأجله حتى يُرسله لي؟ كيف له أن يتذكرني حتى إلى الآن؟ لقد مرَّت أكثر من أربع سنوات! حتى هذه اللحظة هو لم يُرسل لي شيئاً غير مهماً، فكيف بأن يأتيني فجأةً بمرسلٍ مُهم؟ إنه بالكاد يتذكرني!
أم أن الملل أصابه أخيراً بدون وجود السبب الذي يجعله يصرخ في وجهي، ويُمارس فيَّ انتقاده اللاذع! أغلقتُ عينيَّ.. كلا، كلا يا إبراهيم، لا يتوجب عليك بعد كل هذا العمر أن تُطلق العنانِ لفكرك السلبي أن يُسيطر عليك، ألا يكفيك هذه الهجرة؟ ما كان سببها؟ ألم يكن لأجل إتمام برّك وتخليص والدك من عُقدتك؟ ألم تهرب حتى لا تتفكك أمامه؟ حتى لا تنصهر عليه؟ لقد أنقذت علاقتك به بهذه الهجرة، أليس كذلك؟ أو رُبما كنت قد.. أنقذت نفسك فحسب!
فتحتُ عينيَّ أخيراً.. سحبت الورق من داخل الظرف، لقد كان متيناً، يبدو وكأنه… شهادات؟ أبي.. ما تفعل بي الآن؟ أهذا ما يُسمونه ترميم الماضي؟ أو إصلاح ما هُدم! رُبما أنك تحاول إعطائي حقنة مُهدئة؟ لا أعلم حقاً.. أبي ما الذي تُفكر فيه؟
لم أنتبه أن أدمعي حينها.. بللت شهادات إخوتي الصغار.. المتفوقة. أما عن القهوة فقد باتت باردة، وكائني المُستفز، ينظر إليَّ عن كثبٍ وقلق.
••
- “لقد كان مُجرد توبيخ”.
- “كلا، أنت لا تستطيع الحكم من مجرد كلمتين أخبرتك بها!”
- “ذلك صحيح، أنا لا أستطيع الحكم على ملابسات القضية من مجرد سردك لها، فأنا لستُ مُلماً بظروفك النفسية حينها، ولا الضغوط غير تلك القضية التي كانت تُحيط بك، أيضاً أنا خبرتي لا تحمّل بين أحشائِها جنين المشاعر ذاتها التي تمتلكها أنت، لكلٍ منا مشاعره الخاصة، ولكلٍ قدرة تحمّله التي لا تُشابه سواه، وأعتقد أنني لا أستطيع مساعدتك، لكنني على الأقل.. أشعر أنك محظوظ”.
ضحكت علّه يكفُ عن رمي هذه النُكات، ويكتفي، محظوظ؟ كيف من الممكن للإنسان أن يكون محظوظاً حينما تُقابل أخطاءه العادية.. بالطرد من حياةِ الذين يُحبهم؟ بالطرد غير المباشر.. الرميَّ بالنقاط السلبية، قتل الشعور بالذات! وممن؟ من والده!
- “كيف من الممكن أن يكون الإنسان محظوظاً يا محمود؟”
- “أن تملك شخصاً.. تستطيع التجاوز عن أخطاءه”.
- ••
الأربعاء، 5.14 عصراً، قبل أربع سنوات:
- “من الجيد لك أن تُتابع ما تتعلمه في الصباح، وتدرسه جيداً”
- “ألسنا ندرس في المدرسة؟”
- “بإمكاننا أن نُسمي ما تفعلونه هناك.. تلقي للعلم لا أقل ولا أكثر؛ مما يجعلكم بحاجة إلى دراسته وتثبيته في جعبتكم بعد العودة إلى المنزل”
- “لماذا؟ هل يطير العلم!؟”
ضحكتُ من تعبيره البريء. فعبس مُـتسائلاً: “أقلت نكتة؟ لماذا تضحك!!”
حركتُ يديَّ نافياً، قبل أن أتمالك نفسي وأهدأ.. ثم أعود لإجابته مُداعباً: “معك حق يا أحمد، للعلم أجنحةً كبيرة، إن لم تنتف ريشها.. سوف تُحلق بعيداً عنك، وتبقى جاهلاً!”
- “تباً.. حتى بعد الذهاب للمدرسة.. هناك احتمالٌ إذاَ أن أبقى جاهلاً”
تابعته جيداً، لقد كان متململاً لكنه مع ذلك يُحاول الاستذكار، عدتُ للبحث عن فهد.. تنهدتُ طويلاً، ما زال مُثابراً في تضييع الوقت، وبعد أن مزق دفتره بالأمس، ها هو اليوم يُحاول التخريب على مدارسة أحمد، ظللت أراقبه لقد كان يقترب من دفترِ أخيه محاولاً سحبه من بين يديه، يا إلهي.. يومياً على هذا الكفاح! إنه لا يتعظ أبداً، وإن ضربته فإن ذلك سيُشعل النار في جوفِ والدتهما.. امرأة أبي، التي حلّت محل والدتي المُتوفاة، عجلتُ إليه حتى أمسكت يده بخشونة وأبعدته قبل أن يُضيع مجهود أخيه، لكنه لم يتوقف حينها، لقد كافح مطولاً حتى يفعل ما يريد، وقد ازددت مع كل محاولةً له خشونةً وغضب، لكنني أبداً لم أمسه ضرباً ولا تقريع! لقد اكتفيت بتكتيفه. لكنني حالما تذكرتُ دخول أمه بالأمس علينا ونحن في مثل هذه الحالة، وصراخها ثم غضب والدي.. تركته.. لكنه ما إن فلته إلا وقد هجم علي وضربني على جميع أنحاء وجهي، فركلته بعيداً عني، ثم أخذ يبكي ويصرخ.
- “ما الذي يجري هنا؟”
آه، إنه والدي بدونها، لقد تنهدتُ بارتياح.. سوف أشرحُ له مُعتذراً كل ما حدث. لكن من المخيب للآمال أن يدخل في مثل هذا اللحظة بالذات!
- “لقد ضربه وركله بشدة يا أبي، إن إبراهيم مخيف”
التفتُ مبهوتاً إلى أحمد، إنه يكذب! ما الذي يجري؟ يبدو وكأن أمه قد لقنته درساً خاصاً! فهد أخذ يتلوى ويصرخ، وأنا.. كما ذلك الأطرش تماماً، لا يعلم ما الذي فعله؟ وما الذي يتوجب عليه شرحه الآن!
- “أتحاول عكس تأثير فشلك على هؤلاء الأطفال الآن؟”
التفتُ إلى أبي مصعوقاً، لم أعرف كيف أُجيب.. ما الذي يفكر فيه؟ ما الذي يجعله يحسبني كذلك!
- “لقد فشلت في دراستك، وعجزت عن مُتابعتها، وها أنت حينما أعطيتك الفرصة لإصلاح أخطاءك، وتدارك بعضاً من ثقتي التي فقدتها فيك، وخيبت فيَّ رجائي، أُتحاول مجدداً جعل منهم نسخاً منك؟”
تأتأت الحروف بين شفتي، نظرتُ إلى عينيه بحثاً عن قلبه.. علَّني أجد شيئاً منه، أأنت يا أبي.. محشواً بالأفكار السلبية عني؟ أم أنك تظنني حقيقةً ورجاءً.. كذلك!؟
- “لكنك بالتالي.. أخفقت في فرصتك الأخيرة، وظللت تُدهشني في مدى قمة فشلك، وعنجهية سلوكك الحيوانيَّ”.
- “أبي.. انتظر قليلاً.. سوف أشـ…”
- “لم أرى مثلك ابناً عاقاً، وفاشلاً.. لا يأبه بعدد الخيبات التي يُلحقها بوالده”
لقد لمحتُ زوجته، تقف خلف الباب تنظر، صغاره.. لا أعلم أيُ رهبةٍ حلّت بهم حتى يتوقفون ويُنصتون بصمت على حديثنا.. حديث؟ هل يُسمى هذا حديث!
- “أُغرب عن وجهي.. اذهب إلى حيثُ تشاء ولا تُرني وجهك مُجدداً!”
من السُخفِ أن نظن أن شيئاً تافهاً قد لا يترك شرخاً عظيماً في علاقاتنا بالآخرين، بالأخص منهم المقربين، فكلما كان الشخص أقربُ إليك، كان ذلك وباءً على جميع أخطاءك معه، لأنه سيكونُ مُباشراً، أكثر وضوحاً، جدية، ولأنك حينها يتوجبُ عليك أن تتقمص دور الوفاء بكل براعة، وبهاءً. إن القُرب عادةً يُطالبك بالمزيد، والكثير من الشقاء.
••
من الغرابة..
ألا نتذكر من الماضي
سوى.. زاويته المظلمة،
حرارة مساحته الضيقة
الشقوق التي أدمتنا ليالٍ طويلة
وأعيُنهم الغاضبة..
أيضاً.. لون الصوت الذي تقيئوه.
••
الأحد، 8 صباحاً، في مثلِ هذا الوقت:
مجددًا، شقيقي من والدتي المُتوفاة عُمر الذي يصغُرني بسنة، يُرسل إليّ تذاكر جديدة علّني أعود ولو في هذه الإجازة، وعلى النقيض مما أفعل عادةً من تمزيق تذاكره.. لم أفعل في هذه المرة سوى تركها على المنضدة، أعتقد أن موعدها اليوم!
من السيء أنه حال عودة بعض الذكريات الموجعة، يعود معها الحنين، الأرق، ونتذكر.. كم كُنا نُحبهم، ولا زلنا، ومن العجيب، أننا نستطيع قطع أواصرنا بأيَّ فردٍ عرفناه، إلا من شاركناه طعامنا يوماً، نومنا وضحكنا، أولئك الذين زرعوا بأيديهم الحُب في داخلنا، ورعوه بسقائهم.. وقود عنايتهم القديمة، ولو كانت يوماً واحداً.
التفتُ إلى جُدران غُرفتي المتواضعة، ما نحنُ بدون مساعدة الآخرين؟ لو أن خالي لم يُساعدني لما استطعت السفر، ولا الحظي بكل هاته الشهادات بعد متابعة دراستي بهذا الشكل المُكثف.. في الحقيقة.. لم تنشأ فيَّ كل هذه العزيمة إلا مُحاولةً لإشباع عقدة النقص التي أنبتها في قلبي، لا غير ذلك.. إنني حتى لم أُحاول أن اُريه أيِّ من مجهوداتي، وكفاحي.
لو أن جميع إنجازاتِنا تظهر على صفحاتِ وجوهنا، لهونت لنا الكثير من المشاق.. حالما نحتاجُ ذلك! رُغم أنه لو حدث هذا في الماضي لبدوتُ صغيراً جداً، أعتقد بأن لكلِ شخصٍ ماضٍ مُخزي إن كان في شخصهِ أو مع الآخرين، لكن الأعجوبة أن يخلُق صاحب الماضي القبيح.. مُستقبلاً مُشرق وجميل. لكن.. ما الجميل في المستقبل المشرق إن عشته وحيداً؟
عدتُ للنظر في التذاكر، اقتربتُ منها، حملتُها بين يديَّ ولا أعلم ما صنعت بعد ذلك حتى وجدتني على مقعدي في الطائرة.. العائدة إلى بلدي.. وكائني المُستفز؛ في سُباتٍ عظيم.
الجزء الذي فقدته من ذاكرتي.. لقد كان الأهم، هو ذاته، الحاجز الشاهق الذي قوّى ساقاي على القفز عالياً، لذلك أنا ممتنٌ له.
وفي الحقيقة.. من الممكن أن تتحول ذكرياتنا إلى جحيم، إن تركناها بلا نُقطة نهاية، ثم إن البدايات الجديدة لا تُبتدأ بعد النهايات المفتوحة.. ومن السخافة ألا نُلبي نداء أحد والدينا إن هتف باسمنا ولو مرةً في العمر.
عدتُ للنظر إلى خلف شهادات إخوتي الصغار، المُرسلة من والدي.. لقد كانت هُناك ورقةً صغيرة:
[ هلّا أتيت؟ لنحتفل معاً بنجاح طُلابك ].
نظرتُ إلى حقيبتي هنيء البال، لا بأس أيضاً من حمّل بعض من انجازاتي ليراها..
لقد تذكرتُ تواً.. أنه بإمكاننا تغيير الصور التي بداخل الإطار.
••
الإثنين، 8.45 م
6/1/1437 ه
وديعة فيصل